التصحر العاطفي الرقمي- عزلة الجوالات وعواصف المستقبل الاجتماعي

المؤلف: عبده خال11.02.2025
التصحر العاطفي الرقمي- عزلة الجوالات وعواصف المستقبل الاجتماعي

في أحد الأيام، وفي لحظة تنبؤ قاتمة، حذرت من الانسياق نحو هاوية التصحر العاطفي الذي بدأ يزحف إلى قلوبنا، واستبقت ذلك بمشهد تلفزيوني موجز، لكنه يحمل في طياته مرارة الواقع:

تخيل أسرة مجتمعة في غرفة معيشة، لكنها غارقة في عزلة رقمية. كل فرد منهمك بشاشة هاتفه، صمت مطبق يخيم على المكان، العيون مثبتة على الشاشات المتوهجة. تتراقص على الوجوه تعابير متباينة بحسب المحتوى المعروض. الأب يضع يده على صدره، يتلوى ألماً، يئن بصوت خافت: "أغيثوني!"

لا يلتفت إليه أحد. ينهض بصعوبة بالغة، ويكرر الرجاء: "أغيثوني!".

أفراد الأسرة مستمرون في تقليب صفحات هواتفهم غير مكترثين. يترنح الأب وهو يتقدم نحوهم، ثم يسقط أرضاً، جثة هامدة. والجميع لا يزالون منغمسين في عالمهم الرقمي، غافلين عما حدث.

هذا المشهد قد يكون ضرباً من الخيال، لكنه يعكس واقعاً ملموساً، فنحن نعيش في عزلة اختيارية داخل بيوتنا، وفي مجالسنا. كل فرد أسير عالمه الافتراضي، منقطع عن محيطه الحقيقي.



يثور في داخلي إحساس بأن البشرية مقبلة على قحط عاطفي شامل، فوتيرة الحياة المتسارعة لم تمنحنا الفرصة الكافية لاستيعاب التطور التقني الهائل بخطط استباقية مدروسة. الثورة التقنية وثورة الاتصالات قد خطا خطوات واسعة وسريعة، اختصرت الزمن وطوت المسافات. لم يعد ما كان راسخاً من قيم الأجداد قادراً على الصمود في وجه هذا الطوفان التكنولوجي. إذا كنا في الماضي نقيس الفارق بين جيل وآخر بعقد من الزمان، فإن هذا المقياس قد تجاوزه الزمن، فالتحولات باتت تحدث بسرعة البرق، والناس اليوم يقيسون الفوارق بين الأجيال بالسنة أو السنتين، وهذا التغير يظهر جلياً في تحديث أجهزتهم الإلكترونية أو موديلات هواتفهم. هذه الفترة الزمنية الضئيلة بين الأجيال لا تسمح بترسيخ أي قيمة أو مثل عُليا كانت محل تقدير في الماضي. معظم الناس يعيشون في خضم دوامة اجتماعية عاصفة، وحتى أولئك الذين وضعوا خططاً بديلة لمواكبة التغيرات الاجتماعية المتسارعة لم يتمكنوا من النجاة من هذا الطوفان. لقد غلبت سرعة الزمن على المحتاطين، فإذا كان التغير يحدث في غضون خمس أو ست سنوات، فمن الطبيعي أن تعجز خططهم عن تحقيق أهدافها.

لقد انخرطنا جميعاً في "خلاط" اجتماعي لا يفرق بين لين أو صلب، فالكل يتحول إلى سائل متجانس.

ومع هذه الوتيرة الزمنية المتسارعة، لم نتعود على مجاراتها أو مواكبتها، ولم نستعد للمتغيرات بالصورة الأمثل. هذه الكارثة الاجتماعية ليست محصورة في دولة أو منطقة جغرافية معينة، بل هي ظاهرة عالمية شاملة. لن تصمد أي قيمة من القيم السابقة، فالجيل الحالي والقادم سيصوغ قيمه الخاصة، لكن معضلته الكبرى ستكمن في ذلك الفراغ العاطفي الذي يتسع في الصدور، وهذا هو بالتحديد ما أقصده بالتصحر العاطفي.

أجل، إن شباب العالم مقبلون على تصحر عاطفي مريع، فالاختراعات التقنية قد قفزت بالكون خطوات هائلة، ولم تعد المجتمعات الاستهلاكية قادرة على التكيف ثقافياً ونفسياً مع هذه المستجدات التي تؤثر بشكل كبير على حياتهم. عادة ما تكون المجتمعات الاستهلاكية تابعة بشكل أو بآخر، وتتشكل وتتغير سلوكياتها تبعاً للمنتجات التقنية المستحدثة.

أما الدول المنتجة، فقد وازنت مجتمعاتها بحيث تتوافق مع هذه المنتجات، فلا تجد تناقضاً بين ثقافة المجتمع ومنتجاته، خاصة في الجانب الاجتماعي. بينما في الدول المستهلكة، تتخلف الثقافة والسلوكيات عن الأدوات المستخدمة في الحياة اليومية، مما يخلق فجوة واسعة لا تتناسب مع الواقع المعيش، ولا تتماشى مع المعطيات التقنية الحديثة.

نتذكر إعلان إحدى الجامعات البريطانية عن اختراع روبوت يقوم مقام الزوج، ويلبي جميع احتياجات المرأة، بما في ذلك إغداقها بعبارات الغزل، ومدح جمالها، وإشعارها بالحب، وتبديد مللها.

كيف يمكن للمجتمعات المستهلكة استيعاب هذا الاختراع، وإحلاله محل الزوج البشري التقليدي؟

ربما يسبق هذا الروبوت الزوجة الآلية، ليشجع الرجل على التخلي عن مسؤولياته الجسام في الرعاية والإنفاق، وعن متاعب الحياة الزوجية المكلفة.

هذان النموذجان البسيطان كفيلان بتغيير النمط الاجتماعي السائد، وقد بدآ بالفعل في إحداث تغيير ملموس في محيطهما.

تخيلوا معي ما ستكون عليه الاختراعات التقنية القادرة على صياغة حياة أخرى بقيم جديدة لدى المستهلكين! أي أن أي اختراع جديد هو بمثابة تجريف للأدوات والسلوكيات القديمة.

دعونا نترك للخيال العنان ليجيب كل قارئ على هذا السؤال: كيف ستكون الحياة في ظل هذه التغيرات المتلاحقة التي تحدث كل يوم؟

المسألة هنا ليست مجرد إشباع احتياجات، بل هي تقنية ستغير الأنماط السلوكية خلال السنوات القادمة. ستجد الدول المستهلكة نفسها أمام معضلة اجتماعية عويصة، إذا لم تتوائم ثقافتها مع التطورات التقنية المتسارعة، وسيزداد تخبطها إذا لم تضع حلولاً آنية ومستقبلية لمواجهة التغيرات الثقافية والسلوكية التي تحملها التقنية بين طياتها.

القضية عميقة وخطيرة على المستويين الاجتماعي والإنساني. وكشكل من أشكال الربط بين النظرية والتطبيق، كنت أقرأ تقريراً عن العنوسة، ونسب الطلاق المتزايدة، وتأخر سن الزواج، وعزوف الفتيات عن الزواج، ووجدت أننا بالفعل أمام أزمة اجتماعية حقيقية لم تفلح في حلها الطرق التقليدية، ولن تحل بالتعددية. ومع ازدياد أعداد غير المتزوجين (شباباً وشابات)، يتردد على مسامعنا ميل البعض (تصريحاً أو تلميحاً) إلى التعويض عن ذلك باللجوء إلى البدائل التي توفرها التقنيات الحديثة لإشباع الرغبات الفطرية. هذا مجرد جانب واحد من المشكلة، أما التصحر الاجتماعي فهو أوسع وأشمل. أعتقد أننا بحاجة ماسة إلى إيجاد حلول عاجلة لمواجهة التصحر العاطفي، الذي ينذر بعاصفة اجتماعية وشيكة، يجب أن نستعد لها ونضع الحدود التي تحمي مجتمعنا من تداعياتها المدمرة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة